قصه قصيره بعنوان / مسحراتى النهار
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بقلمى / إبراهيم معوض
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصباح باكر ..والديكة لم تكف عن الصياح ..والشمس لم ترى منها الا أشعه ممزقه .. تشعر أن الكون يتحرك نحو الظلام .. فالشروق والغروب متساويان ..كبداية الشيء ونهايته ..
الأرض فارغه لا يوجد إلا بقايا أشخاص تترنح بحثا عن لحظه إلقاء أجسادهم على الفراش لابد أنهم عمال الوردية الليلية بالمصنع ..
وما هي إلا ثوان وكان الطريق المؤدى إلى المصنع فارغ والطريق المؤدى إلى البيوت فارغ ..
البيوت تقف كشواهد قبور لا حياه لا حركه موات
مؤشر الساعة ينزلق نحو السابعة صباحا والمكان كما هو إلا ان الحركة اختفت وأصوات الصياح سكنت يبدوا أن كل شيء هنا يتأخر عن عمله .حتى كائنات اخر الليل التي تزحف في أول النهار للاختباء لا أثر لها ..
المكان ينعم بهدوء عجيب .. هدوء حتى الموت
ماذا حدث ؟
أيكون الطاعون أصاب سكان الحارة ؟ ولم ينج أحد
أتكون الحياه قد أصابها التوقف في هذه القطعة من العالم ؟ أم أنه الكهف ؟
على الانتظار . لم العجلة . والقيت بنفسي عند باب الزاوية . زاويه ؟؟ يبدوا أنها مغلقه منذ أيام أو حتى سنوات لم تقام فيها صلاه والحارة في هدوء واسترخاء
المؤشر ينزلق نحو السابعة والنصف إنه موعد الوردية النهارية بالمصنع ولكن لا ذهاب والطريق خال مغسول الشمس تجد صعوبة في نسج أشعتها ولكنها تحاول تلقى بأطراف منها على الأرض فلا تجد من يتمتع بها فتجذبها مره أخرى.. فما فائدة الدفيء بين المدافن ..
ماذا أفعل ؟ هل أنادى كالمسحراتى أوقظهم كي لا يتوقف المصنع .. المؤشر يزحف نحو الثامنة ..أشعر بيد ثقيلة على كتفي ألتفت فجأة لأرى وجها عجيبا ملئ بالدهن يكاد الزيت ينطلق من مسام أصداغه وجه مكور وكرش كبير مترهل وأقدام منتفخة كالقرب تشعر أن قطرها كقطر الأرض . يرتدى ثوبا ليس به إلا اللون الأسود القاتم وقليل من الأبيض في الأكمام وكأنه زي الحداد .. وأنطلق بصوت هامس .. لماذا تجلس هنا يا ولدى في هذا الوقت المتأخر فكاد السؤال يمزق رأسي إن الساعة الثامنة صباحا والوقت نهار والشمس تبزغ تارة ولكنها تختفى خلف قطع السحاب تارة أخرى ولكنها الثامنة وعشر دقائق على وجه الدقة ..
فالتفت غير مبال بما قلت ينهال بأسئلة اخرى ألست من هنا يا ولدى ؟ ألم تعرف التعليمات ؟ ولماذا ترتدى هكذا؟ فقلت بصوت ملئ بالحسرة أنظر إلى ثيابي الممزقة ونقوشها الضائعة ورائحه العرق في ياقة سترتى املأ أنفك برائحه الدم حتى تعلم من أين أتيت ..ولماذا أرتدى هكذا . فقال وحسرته تأكل حسرتي .
لافائده يا بنى .. القوه دوما تطيح بالضعف .. اذهب حتى لا تصاب بمكروه فأصوات الرصاص آن وقت إطلاقها والتعليمات أن اليوم ليل متواصل . فقلت أمجنون أنت ؟ ألم تصلوا ليلا ؟ لما أغلقت الزاوية ؟
فقال ونبره الحزن لم تفارقه ..هذه ليست للصلاة يا ولدى هي أثر للتبرك وعندما يسمح لنا بالاستيقاظ نجلس عند هذه العتبة لنبكي ونتذكر أيام المجد القديم .. اذهب يا ولدى واسترح يبدوا أنك آت من بعيد اخلع ثوبك الممزق وبدل حذاؤك الذى يشبه حذاء الجنود هذا وارتدى الثوب الفضفاض وأنعم بالنوم فهو خير علاج .
وكف الرجل عن كلامه على صوت انفجار مدوي وصوت رصاص يرج المكان تشعر أن الصدى يتردد في المئذنة ويدوى أعلى القبه اللامعة .
فالساعة التاسعة والوجود نائم الا عن أصوات رصاص وإشارات ضوئية تنبعث بين الحين والحين .والخوف يأكل أيدينا وأرجلنا والرجل بجواري أراه يتبدل فوجهه المكتنز ينحف والزيت يجف فيه صار وجها ممصوصا وعينان غائرتان وقدماه تصير كقدما قطه صغيره لا تقوى على حمله والخوف يسيل من مجارى الزيت في وجهه زائغ البصر كمن يبصر هول سقوط السماء
لم أجد بدا من أن أنبطح على وجهي هكذا قالوا لنا في فريق الكشافة
يبدوا أن الزي الذي ارتديه وذلك الحذاء وتلك الرائحة التي تملأ أنفي سأستفيد منها كثيرا . يبدو أني خلقت لذلك، وكفت الأصوات وعاد الهدوء المزعج المميت ، الهدوء المليء بالخوف .قمت أختبئ أركن ظهري على جدار منزل ووجهي في جدار الزاوية ، أنظر إلى ركبتي _المطلة من البنطال الممزق _ وحذائي الثقيل وسترتي ،ورائحة العرق والدم التي تعبق في أنفي ، إلى متى أستمر ......
لماذا لم أسمع كلام العجوز وأعود لأرتدي الزى الفضفاض وأنام.
أين العجوز؟؟ لماذا ذاب في الأفق فور سماع الأصوات المتفجرة ؟!
مؤشر الساعة يتحرك تحت الزجاج يقترب من العاشرة والشمس تنجح في نسج أشعتها أخيرا . لتلقيها على القبور التي لا تريد الدفيء ولكن لا يهم . لابد أن تشرق من أجل نفسها . البيت الذي أركن ظهري عليه أشعر وكأن الحياة بدأت تولد فيه برفق . أصوات الملاعق والسكاكين والأطباق تهمس وكأنها حركات لص حاذق ولكن العجيب أن اندفعت من فوهة المنزل فتاه خرجت من الباب كالسهم تحمل الطبق في يدها وتسير في الوان زاهية
ترتدي الوانا يغلب عليها الاحمر والاسود والأبيض وتضع الشال الأحمر على رأسها وتلف جزعها بسترة قرمزية والسيقان تبرز من تحت الملاءة والطبق يترنح في يدها تبحث عن بائع الفول
ولكن لا أحد بالحارة يبدو أنها استيقظت مبكرا مثلي .
أين الشيخ العجوز؟ لماذا لم يأت الآن ، يخفف عني خوفي قلبي يذوب يرتجف خوفا على الفتاة الجميلة . أخاف عليها من الخوف كم هي جميلة ! وجه ملئ بالشموخ وشفتاها مضمومتان في حزن وأنف مقوس تشعر أنها الفتاه الواقفة في تمثال نهضة مصر
تشعر أنها آتية لتوها من الميدان ترفع الشال بنفس الطريقة وقدها الممشوق ولكن يديها تترنحان
أخاف عليها فالذعر يملأ المكان وحتى العجوز الخسيس تركني واختفى
هل هي آتية لتشاركني خوفي ؟ّ!
الزاوية تزداد تلفعا بالتراب والخوف يكاد يسقط المئذنة والقبة وأتابع الفتاة بناظري واليد تمتد من منعطف جانبي يد لم أر منها إلا أنها يد طويلة طويلة مليئة بالزغب الأصفر اللامع لتجذب الفتاه داخل المنعطف والصرخة اللاإرادية ترتفع وما لبثت أن ذابت كغيرها في ظلام شمس النهار كطلقة من الطلقات السابقة التي لا توقظ أحدا .
والخوف يقيدني فأقدامي موثوقة بالذعر والتعب والإرهاق يفككان جسدي
وموجة النعاس تلاطم شواطئ جفوني وسلطان النوم يخطفني .
فالكون حولي يتثاءب وجفناي يثقلان ورأسي تنطرح في نقطة التقاء منزل الفتاه بالزاوية
ما أحلى النوم !! وأنت مرهق وهدوء المكان لذيذ ورائحة الدم لا وجود لها والعرق يجف وأنفي لا تشم إلا ثمالة النعاس ..
تصبحون على خير
كتبت عام 1998