التيارات العميقة
قصة قصيرة
بقلم / رمضان العلالقة
~~~~~~~~~~
كان كطائر يغرد على أغصان كثيفة فسقط به غصن الأمنيات الحالمة و تلقفته صديقته الملائكية التي يشكو لها كل ما يلحق به من ضرر و ما يعتريه من أحاسيس مرهفة بكل أشكالها فكان السقوط بين أكف رحيمة و التي كانت تراقبه تتحسس خطواته و تتوقع سقوطه عاجلا أم أجلا إنها تعلم كل شئ عنه استشعرت صدقه و تأثرت كثيرا بما يموج في نفسه من ألام خانقة لقد تركته حبيبته التي جند لها كل عواطفه و قذفت به بين أمواج الألم و تركته يتخبط وحيدا بين هوة فراغه الذي لم يعتاده من قبل فاحتضنته الأحزان السوداء التي غطت مساحات هائلة أمامه و رسمت الكآبة حتى شكلت كل ملامح وجهه و عندما أفاق من غفوته الثقيلة ما وجد أمام عينيه إلا تلك الصديقة النقية شعر أنه بين دفء أحضان الأم التي لا تعرف إلا الرحمة و الشفقة و اعتادتها معه إنها الطبيبة التي تطبب بلا ملل جراحه الدامية تستأصل ببراعة شديدة و دقة متناهية كل ألم لحق به و هو لم يكن غريبا عنها إنها تثق به ثقة لا حدود لها و تعلم عنه أدق تفاصيل حياته تمكنت تلك الصديقة من انتشال ما تبقى من حطام ذاك الرجل المثير غريب الطباع فجرجرت حطامه إلى حافة الشاطئ فاقدا أحلامه الذابلة بل ذابت أماله بين أمواج اليأس الهادرة و أخذت المرأة الحكيمة تلملم برفق شظايا قلبه المتطايرة و الآن أصبح لا يستمد أمل البقاء إلا من خلال السيدة التي تشعل له مشاعل الأمل فتزايد ارتباطه النفسي بها أكثر فأكثر حتى صار أسيرها و هي ما زالت تواصل كفاحها بإصرار كأنها تتحدى اليأس بهذا الرجل المختلف حتى تمكنت من إنقاذه و راحت تراقبه عن كثب إنه ثمر مجهودها الخارق فكانت تراقب كل ما يدور في خلجاته كأنها تختبر كل شئ تم إصلاحه لتتأكد أنها نجحت في إعادته إلى الحياة من جديد و كما كان من قبل إنه ما زال واهما يتوهم كل سيدة تلاطفه أنها أحبته فتلهث مشاعره وأرائها ركضا ظل يتأرجح على أحبال من جحيم ترمي به إلي حيث لا يعلم و إلى حيث لا يُعقل يقص علي منقذته كل شئ بل كان يدفعا لتختار إحدى الراغبات الارتباط به أو اللواتي يبحثن عن منفذ للدخول لقلبه الجريح هذا القلب الذي أعطى بلا حدود هكذا كان يتوهم و يقص عليها بصدق كل ما يمر بحياته الجديدة و هي كانت تضحك له و ترسم بسمة على شفتيها غير معلومة الهوية إنها أسيرة تصرفاته الحمقاء و أوجاعه الضاربة في أعماقه تتأمله بشئ من الاهتمام لم تفلح تلك العلاقات العابرة التي يخوضها بلا وعي و الأشد عشوائية إنه يعاني فقد الثقة بكل امرأة فلم تدم علاقته بهن إلا لبعض الوقت و سرعان ما يتغير اتجاه عواطفه المتضاربة إلى اتجاهات شتى و ربما كانت معجبة بطريقة عشقه و اشتياقه لحبيبته التي ألقت به على تلال من الأشواك بلا رحمة و كأنه طفل لقيط يجب التخلص منه و برغم كل هذه القسوة ما زالت ماكثة بداخله كأنها محتل يعبث بكل تفاصيله برغم ما أصابه من جراح كادت أن تفتك به مازال حبه لها حيا و ينبض به قلبه الممزق على استحياء شديد كل شئ صار رماديا يفتقد صحيح ألوانه و رغم كل ما يعانيه لم يجد أمامه إلا الصديقة التي كانت بمثابة طوق النجاة فهي التي أعطت و كرست كل اهتماماتها لتنتشله و تصل به إلى شاطئ أكثر أمنا هذا فقط هو اللون الذي يراه أمام عينيه بوضوح فأصبح أسيرا لها لا يمكنه الاستغناء عنها فصار مكبلا بأغلال لا يمكن الخلاص منها أرتجف لها قلبه و تفتحت الأعماق الموصدة فكان يراها المرأة التي خلقت للحب و العطاء و التفاني و هى المرأة التي يمكن لها أن تملأ فراغاته الشاسعة فراح ينتقل بها إلى عالم أخر غير عالمهما و لم لا ؟ إنها امرأة مختلفة متفانية و غير كل النساء و يعلم عنها كل شئ ما عاهد عليها غير الوفاء و براعة الاحتواء المنقطع النظير إن كل ما يدور بداخله تلك الصديقة المعطاء لا يرى غيرها أينما ذهبت أبصاره المتحجرة بها الدموع و المتفحصة كل شئ فبدأ يزرع في حديثه بعض الكلمات مختلفة المذاق تارة و على أطرافه تارة أخرى إنه يدفعها ليخترقا معا الدائرة المحكمة التي تعايشا بداخلها و تعوداها معا مرت الأيام و قبلت بالتحدي تحت ضغط هائل منه و الحياة بدأت تتغير من جديد تكسوها ألوان الربيع اللامعة فتراقصت طيور العشق على أغصانهما الذابلة و التي بدأت تدب فيها الحياة من جديد فكانا أروع حبيبين إنهما خلقا للحب الذي طمس معالمه عالم لا يعرف الحب هكذا كان يشعران كل شئ تغير بينهما حتى لهجتهما تغيرت كثيرا عن ذي قبل و صارت الأمور على نهجها حبيبان يعيشان السعادة معا بكل طقوسها و الحياة بكل ضجيجها تنشب الخلافات بينهما بين الحين و الأخر و نار الغيرة الضارية التي تحترق بها الأفئدة فما كانت غير بعيدة عن عشقه القديم إنها مجمدة في صدره دون أن يدري فكانت كشبح يطارد أحلامها في ظلمة أمنياتها إنه عار تماما أمامها و في كل مرة يختلفان تزداد الهوة اتساعا و عند كل اختلاف لم يتذكر حبيبته المفقودة فحسب بل كان يبحث أيضا عن صديقته الوفية التي كان يبوح و يشكو لها أوجاعه تلك المرأة التي كانت تعطي بلا عناء و تتفنن في رفع الأذى الذي يداهم روحه و يعتصر به قلبه و ربما كان هو الذي يبحث عنها ليفيقها من ثباتها العميق حتى الشكوى أفتقدها في حياة ظن أنه يعيش فيها وحيدا لقد غدرت به حبيبته بعد أن طوع كل حواسه لها و اختفت صديقته أو طبيبته كأنها رحلت إلى خلف الذاكرة و حبيبة يعتريه الشك بكل تصرفاته و صار الآن في أشد الحاجة لصديقته فهي المأوى الذي يؤويه عند كل ضيق لم تجف دموعه و لم يكف بحثه عنها لقد فقد كل أمل و كل حلم يولد في حياته يقتل في مهده إنها علاقة غاية في تعقيدها فكانت صراعا بين المنطق و اللا منطق و بين المعقول و اللا معقول و بعد وقت ليس بقليل أفاقت في صدره صديقته الملائكية التي كان يناديها و لا يمل مناجاتها ليلا أو نهارا و زاد حضورها الأمور تعقيدا أخر إنه لم يستطع تجاوز هذا الحد الفاصل و لم يجرؤ أن يفصح لحبيبته عما بصدره فكلما حاول أن يصارحها يرى صديقته التي يجلها و يكن لها كل احترام تقف في وجهه كسد منيع يفرض عليه الصمت فرضا احتدم الصراع و بلغ ذروته فكان كالتيارات الجارفة صامتة الأنات في أعماق المحيطات يمزق صدره صراع قاتل بين حبيبة أرادها له مؤنسة و بين صديقة يحتاجها و كانت له كعصا الكفيف على الطرقات و حبيبة لم يعف عنها الزمن بعد فهي تحنو بين الحين و الأخر و هو يتأرجح على أحباله الجهنمية فكان الصراع صراع البقاء و كانت الغلبة لصديقته التي لم يجد لها بديلا و فٌرضت عليه اختيارات أحلى ما فيها شديد المرارة لقد صار الآن على أعتاب الخديعة التي مزقته بها حبيبة من قبل و تركته لتعبث به الأقدار و لا مناص من اختيارات بالغة الصعوبة كل شئ تغير بحدة و ذهب في الاتجاهات المغايرة و عليه أن يختار سبيلا من سبله الشائكة و التي لا تنتهي بشئ لقد فشل في تلبية مشاعرها الثائرة و ربما فقد أيضا احترام صديقته الملائكية كل شئ تحول إلى أشلاء مبعثرة على كافة السبل فالاختيارات حتمية و لا مناص منها إنه يعتصر كالحَب بين حُجب الرحى فلم يستطع أن يواصل معها بطريقة خداعية و أكثر وحشية و أن يجابه عطاءها بتسديد ضربه قاصمة لفؤادها المرهف و المعطاء و لا يمكنه الرجوع لماض موجع تباعدت به المسافات و تقطعت به السبل كل شئ يميل إلى القتامة استمرلأيام طويلة متسترا في كتمانه الشديد يخطو سبلا مختلفة بعيدة عن تلك السبل المظلمة و فشلت كل محاولاته اليائسة إنها تراقب بدقة كل انفعالاته الداخلية و على علم مسبق بأدق تفاصيل حياته و بحبيبة غدرت به فلم يستطع إقناعها بشئ مما زاد الوضع تعقيدا فكان عليه أن يرحل في صمت مع غروب أحلامها البريئة
~~~~~~~~~~~
التيارات العميقة
قصة قصيرة
بقلم / رمضان العلالقة