recent
أخبار ساخنة

الأستاذ. فالح الكيلاني يكتب(عن أمل دنقل )

موسوعة شعراء العربية
المجلد التاسع\ الجزء الاول
شعراء العصرالحديث

بقلم فالح الكيـــــلاني

( الشاعر أمـل دنـقــل )

هو محمد أمل فهيم أبو القسام محارب د نقل

ولد في قرية ( القلعة ) التابعة لمركز (قفط ) من محافظة ( قنا ) سنة \1940 من أسرة صعيدية تعيش في صعيد مصرو كان والده عالماً من علماء الأزهر الشريف مما كان له تاثير في شخصيته وسلوكيته وقصائده بشكل واضح.

وكني ( أمل دنقل ) بهذا اللقب لانه ولد بنفس السنة التي حصل فيها والده على اجازة العالمية فاطلق عليه اسم ( أمل ) تيمنا بالنجاح الذي حققه ابوه (واسم - أمل - شائع تسمى فيه الاناث في مصر وفي غيرها من البلاد العربية وخاصة في العراق ).

توفى والده وهو في العاشرة من عمره فأصبح، وهو في هذه السن، مسؤولاً عن اعالة أمه وشقيقيه.مما أثر عليه كثيراً واكسبه مسحة من الحزن نجدها في قصائده و شعره.

اخذ تعليمه الاولي بمدرسة ابتدائية حكومية وأنهى بها دراسته سنة \1952عُرف بين أقرانه بالنباهة والذكاء والجد في دراسته، كما عُرف عنه التزامه بتماسك أسرته واحترامه لقيمها ومبادئها؛ فقد ورث عن أمه الاعتداد بذاته، وعن أبيه شخصيته القوية والمنظمة.

وفي ( قنا ) درس المرحلة الثانوية وفيها نظم الشعرومما نُشره أمل دنقل وهو طالب في الثانوية أبيات شعرية نشرتها مجلة (مدرسة قنا الثانوية ) سنة \1956، وكتب تحتها: الطالب أمل دنقل يقول فيها:

يا معقـلا ذابت على أسـواره كل الجنود

حشـد العـدو جيوشه بالنار والدم والحديد

ظمئ الحديد فراح ينهل من دم الباغي العنيد

قصص البطولة والكفاح عرفتها يا بورسعيد

في العدد التالي لهذه المجلة أفردت له صفحة كاملة لقصيدة بعنوان: (عيد الأمومة) وكتبت تحت العنوان: للشاعر أمل دنقل، وليس للطالب كسابقتها، جاء فيها:

أريج من الخلد .. عذب عطر وصوت من القلب فيه الظفر

وعيد لـه يهتف الشـاطئان وإكليله من عيون الزهر..

ومصر العلا . أم كل طموح.. إلى المجد شدت رحال السفر

وأمي فلسطين بنت الجـراح ونبت دماء الشهيد الخضـر

يؤجـج تحنانهـا في القلوب ضرامًا على ثائرها المستمر

وأمي كل بـلاد.... تثـور أضالعـها باللظى المستطـر

تمج القيود.... وتبني الخلود تعيـد الشــباب لمجـد غبـر

فإن الدمـاء تـزف الدخيـــل إلى القبر..رغم صروف القدر

وتنسج للشعب نور العـلاء بحـرية الـتوطـن الـمنتصـــر

اخذ شاعرنا عن ابيه موهبة الشعر فقد كان والده ينظم الشعر العمودي، ويمتلك مكتبة ضخمة تضم خزينا من كتب الفقه والشريعة والتفسير وذخائر التراث العربي والشعر الحديث مما أثر كثيراً في أمل دنقل وساهم في تكوين اللبنة الأولى والاساس الفاعل لهذا الأديب الشاعر .

انتقل الشاعر امل دنقل إلى( القاهرة ) بعد أن أنهى دراسته الثانوية في مدينة ( قنا ) وحصل على الثانوية العامة عام\ 1957 والتحق بكلية الآداب سنة\ 1958 ليكمل دراسته .لكنه انقطع عن الدراسة في عامها الأول لاجل ايجاد عمل له .وكان قد شعر بالصدمة والامتعاض عند نزوله إلى القاهرة أول مرة. وقد ساعده الصحفي ( قاسم حداد ) في مقالته ( سيف في الصدر) في مجلة ( الدوحة ) في آب ( أغسطس ) \1983حيث يقول :
( دون ضجيج جاء إلى الشعر العربي من صعيد مصر، وكتب قصيدته المختلفة، وكسر جدران قلعة القصيد كما لم يعهد الشعر العربي القصائد ولم يعهد الكسور).

فكانت هذه فرصة جديدة له ونقلة حقيقية في مجال القصيدة الحديثة او قصيدة التفعيلة وأثر هذا عليه كثيراً ويظهر هذا التاثير واضحاً في اشعاره وقصائده الأولى وهذه كانت قضية أمل الكبرى التي عاش من أجلها كالمحارب تماما، فيعبر عن ذلك حين يقول:

كنت لا أحمل إلا قلما بين ضلوعي
كنت لا أحمل إلا قلمي
في يدي: خمس مرايا
تعكس الضوء الذي يسري من دمي
افتحوا الباب
فما رد الحرس
افتحوا الباب ….. أنا أطلب ظلا
قيل: كلا ،
وأثر هذا عليه كثيراً ويظهر هذا واضحاً في اشعاره وقصائده الأولى

فلم يمكث في القاهرة سوى عام واحد إذ رحل عنها\ 1959 إلى مدينته ( قنا ) مرة ثانية حيث اشتغل موظفا ب( محكمة قنا ) ، لكن تهويمات الشعر وخيالاته لم تكن تدع مبدعا شاعرا مثل أمل لوظيفة رتيبة مملة.. فترك العمل لانشغاله بالشعر والحياة، واستمر شعره هادفا ثائرا على الواقع، وأحيانا ساخرا منه بأسلوب يحيل هذه السخرية إلى إبداع شعري غاية في الشفافية تطلق في ذهن القارئ العديد من المعاني الشعرية. ثم انتقل الى كمارك (السويس) ثم انتقل الى كمارك (الإسكندرية )ثم بعد ذلك انتقل ليكون موظفاً في منظمة ( التضامن الأفروآسيوي) ، ولكنه كان دائماً ما يترك العمل وينصرف إلى كتابة الشعر. شعر أمل دنقل بالصدمة عند نزوله إلى القاهرة أول مرة، وأثر هذا عليه كثيراً في أشعاره ويظهر هذا واضحاً في قصائده واشعاره الأولى.

استوحى معظم قصائده من التراث العربي ورموزه مخالفاً لمعظم المدارس الشعرية في الخمسينيات. مبتعدا عن الرموز الغربية واليونانية التي اعتمدها اغلب شعراء الرمزية المصريين

عاصر شاعرنا أحلام العروبة والثورة المصرية فساهمت هذه الامور في تشكيل نفسيته فأ حب عروبته واخلص للثورة في بلاده وكان في هذا مجال لتصادمه مع الحكومة مثل كل ابناء بلده بعد انكسار مصر في عام \ 1967 فعبر عن صدمته في رائعته: (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة)وهذا مقطع منها :

أيتها العرافة المقدَّسةْ ..

جئتُ إليك .. مثخناً بالطعنات والدماءْ

أزحف في معاطف القتلى، وفوق الجثث المكدّسة

منكسر السيف، مغبَّر الجبين والأعضاءْ.

أسأل يا زرقاءْ ..

عن فمكِ الياقوتِ عن، نبوءة العذراء

عن ساعدي المقطوع.. وهو ما يزال ممسكاً بالراية المنكَّسة

عن صور الأطفال في الخوذات.. ملقاةً على الصحراء

عن جاريَ الذي يَهُمُّ بارتشاف الماء..

فيثقب الرصاصُ رأسَه .. في لحظة الملامسة !

عن الفم المحشوِّ بالرمال والدماء !!

أسأل يا زرقاء ..

عن وقفتي العزلاء بين السيف .. والجدارْ !

عن صرخة المرأة بين السَّبي. والفرارْ ؟

كيف حملتُ العار..

ثم مشيتُ ؟ دون أن أقتل نفسي ؟ ! دون أن أنهار ؟ !

ودون أن يسقط لحمي .. من غبار التربة المدنسة ؟ !

تكلَّمي أيتها النبية المقدسة

تكلمي .. باللهِ .. باللعنةِ .. بالشيطانْ

لا تغمضي عينيكِ، فالجرذان ..

تلعق من دمي حساءَها .. ولا أردُّها !

تكلمي ... لشدَّ ما أنا مُهان

لا اللَّيل يُخفي عورتي .. كلا ولا الجدران !

ولا اختبائي في الصحيفة التي أشدُّها ..

ولا احتمائي في سحائب الدخان !

.. تقفز حولي طفلةٌ واسعةُ العينين .. عذبةُ المشاكسة

( - كان يَقُصُّ عنك يا صغيرتي .. ونحن في الخنادْق

فنفتح الأزرار في ستراتنا .. ونسند البنادقْ

وحين مات عَطَشاً في الصحَراء المشمسة ..

رطَّب باسمك الشفاه اليابسة ..

وارتخت العينان !)

فأين أخفي وجهيَ المتَّهمَ المدان ؟

والضحكةَ الطروب : ضحكتهُ..

والوجهُ .. والغمازتانْ ! ؟

* * *

التقى امل في سنة 1976 بالصحفية (عبلة الرويني) وكانت
تعمل بجريدة ( الأخبار) القاهرية فنشأ ت بينهما علاقة إنسانية حميمة وانجذاب لبعضهما ، تتوج هذا الامر بالزواج \1978، وكان امل كثير التنقل والترحال فقد اتخذ من مقهى (ريش) مكانا كمقر له عندما اقدم على الزواج كان لايمتلك دارا او سكنا يأوي اليه ولا يملك نفقات زواجه فرضيت ان تسكن معه في غرفة في احد الفنادق بالقاهرة فتم زواجهما .

شاهد أمل دنقل بعينيه النصر وضياعه وصرخ مع كل من صرخوا ضد معاهدة السلام،ونظم قصيدته الرائعة (لا تَصالِح ْ) التي عبر فيها عما يجيش بافكار الشعب المصري المناضل ورفضهم لهذه المعاهدة التي تعتبر انتكاسة بحق وما تبعها من أحداث كانون الثاني (يناير )عام\ 1977م فكان موقف أمل من عملية السلام سبباً في مصادمته مع السلطات الحكومية وخاصة ان أشعاره كان يرددها الثائرون في التظاهرات ومن قصيدته ( لا تصالح ) هذه السطور:

لا تصالحْ

لا تصالح على الدم.. حتى بدم!

لا تصالح! ولو قيل رأس برأسٍ

أكلُّ الرؤوس سواءٌ؟

أقلب الغريب كقلب أخيك؟!

أعيناه عينا أخيك؟!

وهل تتساوى يدٌ.. سيفها كان لك

بيدٍ سيفها أثْكَلك؟"

"لا تصالحْ

ولو وقفت ضد سيفك كل الشيوخْ

والرجال التي ملأتها الشروخْ

هؤلاء الذين يحبون طعم الثريدْ

وامتطاء العبيدْ

هؤلاء الذين تدلت عمائمهم فوق أعينهم

وسيوفهم العربية قد نسيت سنوات الشموخْ

لا تصالحْ

فليس سوى أن تريدْ

أنت فارسُ هذا الزمان الوحيدْ

وسواك.. المسوخْ!

لا تصالح.. حتى وإن منحوك الذهب

ترى إن فقأتُ عينيكَ..

و ثبتتُ مكانهما جوهرتين

هل ترى؟

هي أشياءٌ لا تُشتَرى!"

كلمات سبارتكوس الأخيرة (مزج أوّل):

المجد للشيطان.. معبود الرياح

من قال "لا" في وجه من قالوا "نعم"

من علّم الإنسان تمزيق العدم

من قال ..لا .. فلم يمت، وظلّ روحا أبديّة الألم !

امل دنقل اصيب بمرض السرطان وعانى منه كثيرا قرابة ثلاث سنوات وتتضح معاناته الشديدة مع المرض في مجموعته الشعرية (أوراق الغرفة\ 8) وهذا هو رقم غرفته في المعهد القومي للأورام السرطانية والذي قضى فيه ما يقارب الأربع سنوات، وقد عبر في قصيدته ( السرير) عن آخر لحظاته ومعاناته يقول فيها :

فى غرفة العمليات
كان نقاب الاطباء ابيض
لون المعاطف ابيض
تاج الحكيمات ابيض
اردية الراهبات
الملاءات
لون الاسرّة ، اربطة الشاش والقطن
قرص المنوم، انبوبة المصل
كوب اللبن
كل هذا يشيع بقلبى الوهن
كل هذا البياض يذكرنى بالكفن
فلماذا اذا مت
يأتى المعزون متشحين
بشارات لون الحداد ؟؟
هل لان السواد
هو لون النجاة من الموت
لون التميمة ضد ...الزمن
ضدمن ...؟؟
و متى القلب - فى الخفقان - اطمأن ؟

*********

بين لونين : استقبل الاصدقاء
الذين يرون سريرى قبرا
و حياتى ..دهرا
و ارى العيون العميقة
لون الحقيقة
لون تراب الوطن

يقول صديقه أحمد عبد المعطي حجازي عن معاناته وشعره :

( إنه صراع بين متكافئين، الموت والشعر).

توفي الشاعر امـل دنقل في الحادي والعشرين من شهر مايس (مايو) عام \ 1983م لتنتهي معاناته مع كل شيء. وكانت آخر لحظاته في الحياة برفقة اصدقائه عند زيارتهم له: د.جابر عصفور وعبد الرحمن الأبنودي صديق عمره وهو يستمع الى احدى الاغاني الشعبية من اغاني الصعيد المصري.

اصدر الشاعر امل دنقل ست مجموعات شعرية هي:
البكاء بين يدي زرقاء اليمامة - بيروت 1969.
تعليق على ما حدث - بيروت 1971.
مقتل القمر - بيروت 1974.
العهد الآتي - بيروت 1975.
أقوال جديدة عن حرب بسوس - القاهرة 1983.
أوراق الغرفة 8 - القاهرة 1983.
اجازة فوق شاطئ البجر

ورغم شعارات ثورة يوليو وانجذاب الكثيرين لها؛ حيث كانت الثورة أمل جماهير الشعب المصري الكادح، ومنهم أمل دنقل الفقير ابن أقصى الصعيد فلم ينخدع حيث كان متنبها لأخطائها وخطاياها؛ بل سجل رفضه لها بعين الباحث عن الحرية الحقيقية ففتح نار سخريته عليها، فرفض الحرية المزعومة التي فتحت أبواب السجون على مصراعيها للمعارضة.. يقول أمل:

أبانا الذي في المباحث، نحن رعاياك
باق لك الجبروت، باق لك الملكوت
وباق لمن تحرس الرهبوت
تفرّدت وحدك باليسر
إن اليمين لفي خسر
أما اليسار ففي عسر
إلا الذين يماشون
إلا الذين يعيشون..
يحشون بالصحف المشتراة العيون فيعيشون
إلا الذين يوشُون
إلا الذين يوشون ياقات قمصانهم برباط السكوت
الصمت وشمك..
والصمت وسمك
والصمت أنى التفتّ
يرون ويسمك
والصمت بين خيوط يديك المشبكتين المصمغتين
يلف الفراشة والعنكبوت

يتميز شعر امل دنقل بالسخرية والتهکم ويعتبرها من أساليب الرفض في شعره، والهدف منهما هو الانتقاد للاخطاء والعيوب؛ سواء اكانت فردية أو اجتماعية أو سياسية، وتنبيه المتلقي واستنهاض الوعي في شعره فهو ينشأ من مشاعر شاعرالشعبيه والوطنيه، ويهدف إلي استنهاض الوعي في الفرد او الرأي العام بمجتمعه وبيئته، ويهدف إلي استفزاز المشاعر وإثارة الرفض لكل المساوئ والمثالب ومأساة الحياة الاجتماعية.

واخيرا اختم بحثي بهذه القصيدة من شعره :

لماذا يُتابِعُني أينما سِرتُ صوتُ الكَمانْ؟
أسافرُ في القَاطراتِ العتيقة،
(كي أتحدَّث للغُرباء المُسِنِّينَ)
أرفعُ صوتي ليطغي على ضجَّةِ العَجلاتِ
وأغفو على نَبَضاتِ القِطارِ الحديديَّةِ القلبِ
(تهدُرُ مثل الطَّواحين)
لكنَّها بغتةً..
تَتباعدُ شيئاً فشيئا..
ويصحو نِداءُ الكَمان!
أسيرُ مع الناسِ، في المَهرجانات:
أُُصغى لبوقِ الجُنودِ النُّحاسيّ..
يملأُُ حَلقي غُبارُ النَّشيدِ الحماسيّ..
لكنّني فَجأةً.. لا أرى!
تَتَلاشى الصُفوفُ أمامي!
وينسرِبُ الصَّوتُ مُبْتعِدا..
ورويداً..
رويداً يعودُ الى القلبِ صوتُ الكَمانْ!
لماذا إذا ما تهيَّأت للنوم.. يأتي الكَمان؟..
فأصغي له.. آتياً من مَكانٍ بعيد..
فتصمتُ: هَمْهمةُ الريحُ خلفَ الشَّبابيكِ،
نبضُ الوِسادةِ في أُذنُي،
تَتراجعُ دقاتُ قَلْبي،..
وأرحلُ.. في مُدنٍ لم أزُرها!
شوارعُها: فِضّةٌ!
وبناياتُها: من خُيوطِ الأَشعَّةِ..
ألْقى التي واعَدَتْني على ضَفَّةِ النهرِ.. واقفةً!
وعلى كَتفيها يحطُّ اليمامُ الغريبُ
ومن راحتيها يغطُّ الحنانْ!
أُحبُّكِ،
صارَ الكمانُ.. كعوبَ بنادقْ!
وصارَ يمامُ الحدائقْ.
قنابلَ تَسقطُ في كلِّ آنْ
وغَابَ الكَمانْ!
.
امير البيـــــــان العربي
د. فالح نصيف الحجية الكيلاني
العراق- ديالى - بلـــــــــــد روز

*********************************

google-playkhamsatmostaqltradent