في زيارتها الأولى لمعهد الموسيقى العربية، شعرت برهبة في أول حفلة لها، فقال لها شقيقها:
غني زي ما بتغني في البيت، ولو انبسطوا منك هتبقي مطربة حقيقية.
وقبل ظهورها على المسرح بدقائق، تقف نجاة وتزيح طرف الستار المغلق بأطراف أصابعها لتطل على الصالة من خلال فتحة ضيقة، فترى أناسًا كثيرين جدًا، الكل يجلس في مكانه، ولا يوجد مقعد واحد خال، وتنشغل بهم بهم للحظات قبل أن تنتبه إلى صوت مذيع الحلفة معلنًا عن مفاجأة السهرة:
-إليكم.. تخت المطربة الصغيرة نجاة
نجاة محمد محمود حسنى من مواليد يوم الثلاثاء 11 أغسطس عام 1936 ، وكان ذلك بمنزل الأسرة، رقم 43 بشارع إبراهيم باشا لأب كان يعمل خطاطًا من أكراد سوريا يدعى "محمد حسنى البابا" في منزل متواضع في حي عابدين، وكان والدها محمد حسني البابا خطاطا بارعا، نال شهرة واسعة، غير انه كان رقيق الحال وكانت أمها مغلوبة على أمرها، والجو العائلي مشحون بالمشاكل. تم طلاق والدتها وهي في سن الرابعة من عمرها، عاشت مع والدها منزوية معظم الوقت خوفا من تسلطه
في سن التاسعة عشر كلف والدها، شقيقها الأكبر "عز الدين "، ليدربها على حفظ أغاني السيدة "أم كلثوم"، لتقوم بأدائها بعد كل حفلة لام كلثوم ، حتى وصلت نجاة لدرجة الإتقان، وتمكنت من تقليد "أم كلثوم"، وبدأت نجاة مرحلة جديدة في مشوارها الفني، من خلال تقديم "مأمون الشناوي" لها في أغنية "أوصفولي الحب" والتي لحنها "محمود الشريف".
اوصفوا لي الحب يعمل إيه في القلب
بيحيّر.. بيغيّر.. بيسهّر
ياخوفي لاأحب أه ياخوفي لاأحب
عالحب أنا بسمع معرفش إيه هو
بيقولوا نار تولع في القلب من جوا
قالوا الحنان في الحب
قالوا الهوان في الحب
بيحيّر.. بيغيّر.. بيسهّر
يا خوفي لا أحب
بيبكي بيفرّح إيه قسمتي ويـّاه ؟
ياهل ترى ح أفرح والا نصيبي شقاه
قالوا الهنا في الحب
قالوا الضنى في الحب
بيحيّر.. بيغيّر.. بيسهّر
خليك على مهلك و استنى يا قلبي
أخاف عليك تهلك وتكون سبب غلبي
وتعيش في نار الحب
وتدوق مرار الحب
بيحيّر.. بيغيّر.. بيسهّر
ولدت في القاهرة إلا أن الإسكندرية هي المدينة التي عرفت بدايتها عام 1948 حين قامت بالغناء. وتبناها محمد عبد الوهاب وسميت نجاة الصغيرة لأن نجاة علي كانت شهيرة في تلك الفترة. وقد بدأت الفنانة الكبيرة حياتها الفنية وهى طفلة في الخامسة تذيع في محطة الإذاعة وكان ذلك في إحدى حفلات نادي الموسيقى الشرقي وعندما قامت للغناء وقفت الطفلة على كرسي من الخيزران وأمسكت منديلا وراحت تحركه بحركة عصبية كما تفعل الآنسة أم كلثوم وضحك ثلاثة أو أربعة من المتفرجين الذين لم يصرفهم الحديث عن النظر إلى المسرح ثم بدأ ت فرقة الأطفال تعزف وراحت الطفلة تتمايل مع نغمات الموسيقى ثم فتحت فمها وقالت غني يا كروان وهنا استدارالجمهور وتوقف صياح المتفرجين وبطل همسهم من شدة الاعجاب بغناء الطفلة. وعندما انتهت الأغنية فقد الجمهور صوابه وراح يصيح ويهتف مطالبا بإعادة الأغنية من جديد ووقفت الطفلة في دهشة وفي عجب وراحت تتساءل عن تصفيق الجماهير فلما قيل لها يصفقون لك راحت تصفق مع المصفقين . وفي صباح اليوم التالي راحت تليفونات المحطة تدق وإذا بالآلاف من المستمعين والمستمعات يسألون عن شخصية الطفلة نجاة ويعجبون بصوتها الحنون ودق الكثيرون تليفون معهد الموسيقى فقيل أن المعهد في إجازة وتحول السائلون والمستفسرون إلى الجرائد والمجلات يسألونها عن أخبار الطفلة نجاة
قدمت نجاة أول فيلم لها بعنوان «هدية»، عام 1947، في سن التاسعة، وكتب عنها الكاتب الصحفي، فكري أباظة، في بداية ظهورها: «إنها الصغيرة التي تحتاج إلى رعاية حتى يشتد عودها، وفي حاجة إلى عناية حتى تكبر، وهي محافظة على موهبتها، مبقية على نضارتها». قدمت نجاه للمرة الاولى في حفل وزارة المعارف عام 1944 ولم يكن عمرها تجاوز السنوات الست، ليستمع الجمهور إليها وينبهر بموهبتها، حتى وصفها فكري أباظة رئيس تحرير مجلة "المصور" في ذلك الوقت في مقال له في المجلة بالمعجزة.
الا ان الفنان عبد الوهاب كان له رأي آخر، حيث كان يعتقد أن الغناء في سن مبكرة يقضي على الموهبة، فطلب من والدها تعليمها الموسيقى وأصول الغناء من دون السماح لها به الا بعد نضوج موهبتها وتجاوزها سن المراهقة.
ولكن الوالد لم يستمع إلى النصيحة حيث كان يقوم بمصاحبتها لتقدم وصلات غنائية بمسرح بديعة مصابني قبل تجاوزها سن العاشرة.
في عام 1949، قدم الملحن محمد عبدالوهاب شكوى رسمية في مركز شرطة ضد والد نجاة، ادعى فيها أن هذا التدريب هو عرقلة للعملية الطبيعية لتنمية صوتها، وأنها ينبغي أن تترك وحدها لتتطور بشكل طبيعي دون تلك التدريبات وهو الذى وصفها بعد ذلك قائلاً «صاحبة السكون الصاخب»، فهى صاحبة صوت له جمال عَذب يُشعرك بالذنب إذا لم تُحبه
قصة إجبارها على شرب الخل لتبقي نحيلة وصغيرة وقادرة على استدرار عطف المستمعين داخل المقاهي والحانات، كانت من أكثر القصص الرائجة حول المطربة نجاة ويقال أنها مصدرها للهروب من جحيم والدها الذي كان يحتكر أموالها بالكامل، والقصة الحقيقية أن نجاة كانت تشرب الخل للعلاج من اصابتها بسعال حاد سببه إستنشاقها المبكر لدخان الشيشة مع والدها وهو ما كان يمنعها من الغناء بقوة، كما ألزمت والدها بالتوقيع على اتفاق تتخلص فيه من وصايته عليها لتنتقل لشقيقها عز الدين.
في العام 1955 تزوجت نجاة من كمال منسي صديق شقيقها، وبعد أن خلعت ثوب الزفاف خلعت أيضا ثوب أم كلثوم الذي ارتدته لتنطلق بثوب فني جديد يحمل بصمتها.
ساعدها زوجها فكان يحضر لها من المؤلفين والملحنين أغاني تليق بها وبصوتها العذب، لتنطلق كالسهم المضيء وتنجح في سد الفراغ الذي تركته ليلى مراد باعتكافها، وشادية باتجاهها للتمثيل، واختفاء أسمهان وفتحية احمد ونجاة علي التي اضطرت نجاة إلى تسمية نفسها ب “نجاة الصغيرة” بسببها.
بدأ الجمهور يتذوق أغانيها وصفق لموهبتها الأصيلة، وذاقت نجاة طعم النجاح لأول مرة في حياتها وشعرت بأن الناس يحبونها لصوتها وموهبتها وليس لتقليدها أم كلثوم.
في غمار فرحتها بالزواج وسعادتها بأبنها “وليد”، فهو الزوج والحبيب ومساعدها الأول الذي يقتنص لها الألحان والكلمات لتقديمها لها وأصبح مستشارها الأول الذي تأخذ برأيه في معظم الأوقات، وبعد أربع سنوات تحول العش الهادئ إلى جحيم لا يطاق وعواصف تقتلع الحب الكبير، فقد تحول الزوج إلى إنسان آخر كرهت معه تدخلاته السافرة في حياتها وفنها وسعت إلى تجاوز الأزمة بمحاولة الطلاق الودي.
بعد 6 أشهر انفصلت عنه لتتزوج مرة ثانية وأخيرة من المخرج حسام الدين مصطفى، الذي أخرج لها فيلم «شاطئ المرح» عام 1967.
لم تستمر أيضًا لفترة طويلة، بعدها أعلنت نجاة تفرغها لابنها وفنها، ولم تتزوج مرة أخرى.
قالت نجاة في حديث صحفي قديم لها نُشر في مجلة «آخر ساعة» بعددها الصادر عام 1967: «لك أن تتصور إحساسي العصبي عندما يذهب وليد إلى السينما من 2-6، ويتأخر حتى السادسة والربع، ثم لك أن تتصور أيضًا إحساسي عندما يصل في السادسة والربع؟، الأمومة هي أكثر الأشياء التي تربط الإنسان بالأرض لولاها لطرت
إعتادت نجاه المتاعب ولكنها تخرج من الأزمة بتناسيها مؤقتا لتلحق بقطار المنافسة الذي يسير بسرعة كبيرة. أرادت أن تلحق بعبد الحليم حافظ، وفايزة احمد التي استطاعت في فترة قصيرة تخطيها، وأصبحت المطربة المفضلة عند الموسيقار محمد عبد الوهاب بعد أن استغلت خلافه مع نجاة بسبب رفضها العمل في فيلم من إنتاجه، وتأخذ منه خمسة ألحان رائعة ويصعد نجمها، فزعت نجاة وقدمت أغنية “سامحني تبت خلاص” وبعد نجاحها انهالت عليها تعاقدات العديد من الشركات، غير أنها في عز تألقها تعود لتسكن إلى الاكتئاب والاختفاء من جديد، فقد ذهبت أغنية “أروح لمين” لأم كلثوم بعد أن حفظتها هي مع السنباطي، إضافة إلى أن المحكمة رفضت طلب طلاقها، غير أنها حصلت عليه بعد 6 أشهر.
ظلت نجاة تتطلع إلى نجاح أكيد بعد أن صنعتها أغنية “أسهر وانشغل أنا” التي قدمتها عام 57 وجعلت الناس ينشغلون بها ويسهرون على أغانيها، وقد شجعت هذه الأغنية محمد عبد الوهاب الذي طلب من مأمون الشناوي أن يكتب لها أغنية قام هو بتلحينها “كل ده كان ليه” وبعد أن سجلتها صدمت بأن عبد الوهاب قدمها بصوته و”شربت هي المقلب الساخن” ولكنها قدمت أغنية “أمّا غريبة” التي رفعت أسهمها وبدأت في جولة غنائية عربية رائعة وغنت من ألحان عبد الوهاب “العوازل ياما قالوا” وبعدها أغنية “خايفة” من ألحان شقيقها عز الدين حسني.
.. وتتوالى النجاحات ..
وتتوالى نجاحات نجاة “تليفونك ليه مشغول” كلمات عبد الوهاب محمد وألحان بليغ حمدي “ساكن قصادي وبحبه” كلمات حسين السيد وألحان محمد عبد الوهاب، “قدرت تنام” لمأمون الشناوي ومحمد الموجي، ثم أغنية “أيظن” التي أهداها لها الشاعر نزار قباني ولحنها محمد عبد الوهاب ولاقت نجاحا كبيرا، وكعادة عبد الوهاب معه سجل الأغنية بصوته وحدثت مشكلة مع نجاة لم يحسمها إلا نزار قباني نفسه الذي قال: إن الأغنية مهداة لنجاة وليس من حق عبد الوهاب أن يسند كلماتها لنفسه أو لأي مطربة أخرى غيرها، فقد كان يحلو لعبد الوهاب أن يعيد بصوته تسجيل بعض الأغاني التي يلحنها للآخرين ماعدا أغاني أم كلثوم التي اشترطت عليه عدم تسجيل الأغاني التي يلحنها لها بصوته.
عن قصة حب الشاعر كمال الشناوي الأليمة قال صديقه الصحفي المصري الراحل مصطفى أمين في كتابه الشهير "شخصيات لا تنسى": "عشت مع كامل الشناوي حبه الكبير، وهو الحب الذي أبكاه وأضناه.. وحطمه وقتله في آخر الأمر، أعطى كامل لهذه المرأة كل شيء، المجد والشهرة والشعر، ولم تعطه شيئًا. أحبها فخدعته.. أخلص لها فخانته.. جعلها ملكة فجعلته أضحوكة".
كان كامل الشناوي عائدا إلى منزله عند منتصف الليل، وبينما هو يقود سيارته على كورنيش النيل لمحها في السيارة المجاورة ... لم يصدق نفسه في البداية ... فرك عينيه في دهشة ... فتحهما وأغلقهما مرات عديدة ... وفي كل نظرة يتأكد أنها نجاة الصغيرة ... تجلس إلى جوار الأديب الكبير يوسف إدريس !
أسقط في يد الشاعر الكبير . دمعت عيناه، واستدار بسيارته متجها إلى بيت صديقه الصحافي الكبير مصطفى أمين ... فماذا حدث هناك ؟ وما قصة قصيدة « لا تكذبي» التي نظمها كامل الشناوي فور وصوله لشقة الصحافي الكبير ؟
يقول مصطفى أمين عن هذه اللحظات : « نظم كامل الشناوي هذه القصيدة في بيتي بالزمالك وهو يبكي ... كانت دموعه تختلط بحبر القلم الذي يكتب به وبعد أن انتهى من القصيدة طلب نجاة في التليفون ... ووقفت بجانب كامل الشناوي وهو يقرأ عليها القصيدة وأذني على السماعة لأسمع نحيب نجاة... مضت تسمع القصيدة في صمت من بدايتها حتى نهايتها.
كانت دموع كامل تلمع فوق وجهه وهو يقول لنجاة:
لا تكذبى إنـــى رأيتكــــما معــــــا ودعى
البــكــاء فقـــــد كرهـــــــت الأدمـــــعا
ماأهون الدمع الجســـــــورإذا جـــــــــرى
من عـــــــــين كـاذبــــة فأنــكر وادعــى
في إحدى المرات شاهد أحد محبيها يتودد إليها، فكتب ساخرا: «إنها كالدنيا.. لا تبقى ولا تتجدد إلا إذا خرج من حياتها أناس.. ما أكثر الذين شاهدتهم وهم يغادرونها وما أكثر المواليد الذين رأيتهم على بابها».
كانت آخر كلماته قبل أن يعانقه الموت يصف من خلالها حياته ... التي لم يعد فيها ما يستحق الاهتمام بعد حب نجاة سوى الموت ...
قال فيها الشاعر الكبير: «ولكن أيامي اليوم قليلة ... وانتزاع عام منها يشعرني بالفقر والفراغ والعدم فمنذ تجاوزت الأربعين وحدي ... كما تجاوزت ما قبلها ... لا صحة ولا مال ولا زوجة ولا ولد ولا صديق ... ولكن علام نبكي الحياة ... وماذا لو رحلت عنا أو رحلنا عنها ... ما دام الرحيل هو الغاية والهدف».
لعنة الحب الفاشل أصابت الشاعر، حتى أنه كان يشعر أن هجرة محبوبته قتلته، ولم يبق سوى موعد تشييع الجنازة، وكان يجلس يومياً يكتب عن عذابه، وأصبح يتردد على المقابر، وحينما سأله مصطفى أمين عن ذلك، أجابه بابتسامه حزينة وقال: «أريد أن أتعود على الجو الذي سأبقى فيه إلى الأبد».
كامل الشناوي الذي ظل مخلصاً لجرحه رغم العذاب الذي كان يشعر به، حتى قيل إنه مات مكتئباً، وذلك في 30 نوفمبر 1965
وكانت آخر كلمات نجاة في حواره معها: "حاولت أن أكرهه فلم أستطع، وحاولت أن أحبه فلم يستطع".
وتقول نجاة عن مسيرتها:
«لم يكن الطريق سهلاً ولا مفروشاً بالورود كما قد يظن البعض، كان هناك تعب في إنجاز الأغنيات، وكنت أنا والمؤلف والملحن نراقب كل إشارة لكل كبيرة وصغيرة، كان همنا النجاح الجماهيري إلى حد كبير، وكنا مشغولين إلى درجة الهوس، بأن لا يكون هناك نقص أو خطأ في الأغنية التي تقدم.
في نفس الوقت وبالنسبة لي، كان يجب أن أكون على مستوى الشاعر الذي تعب في صياغة أغنيته وشعره، وأن ارتقي إلى مستوى الجملة اللحنية التي اجتهد الملحن عليها. كان على صوتي ان يحمل كل مكنونات القصيدة واللحن، حتى يكون هناك تكامل في الأغنية التي ستخرج للناس بأبهى حلة».
أما علاقة نجاة بالسينما
فتتحدث عنها الأفلام السبعة التي قدمتها لها. فبعد تجربتها الأولى أمام المطربة «نجاة علي» في فيلم «هدية»، قدمت دوراً في فيلم «الكل يغني»
، ثم قامت بدور البطولة في فيلم
«بنت البلد» عام 1953 أمام الفنان الكوميدي إسماعيل يس، والذي أثبتت من خلاله قدرتها على التمثيل، وهو ما منحها فرصة البطولة مرة أخرى في فيلم
«غريبة»
أمام أحمد رمزي في منتصف الخمسينات.
قدمت بعده فيلم «أسير الظلام»،
وفيلم «الشموع السوداء» للمخرج عز الدين ذو الفقار، وفي نهاية الستينات قدمت فيلمين مع الفنان حسن يوسف هما
«شاطئ المرح»، و«7 أيام في الجنة».
ثم فيلم «ابنتي العزيزة» مع الفنان رشدي أباظة.
وكان فيلمها الأخير «جفت الدموع»مع الفنان محمود ياسين عام 1975.
عندما سُئل نزار قباني عن نجاة،
قال: «بالنسبة لي، يعبر صوت نجاة عن أعماق الأنثى الضعيفة الخجولة، التي تخاف من البوح عما في عالمها الذاتي من أحاسيس. واعتقد انها أفضل من غنى قصائدي وعبر عنها»