recent
أخبار ساخنة

قراءة نقدية لنص كتبه الأديب فاروق الباشا "ضرب من العشق...مشرف" أو تثوير القصيدة التقليدية- بقلم الأديب رياض المساكنى

الصفحة الرئيسية


Image may contain: 1 person, sitting and glasses

قراءة نقدية
"ضرب من العشق...مشرف" أو تثوير القصيدة التقليدية
** مقدمة
ليس من الهيّن على المتقبّل تناول نصّ ما بالنقد وهو ليس بناقد مختصّ.إذ يجد نفسه تائها بين نوازعه الذاتيّة وذائقته من جهة وآليات النقد الأكاديمي من جهة ثانية- وهي آليات غربية في الأغلب- ومن جهة ثالثة سلطة النصّ عليه.
ولعلّ ما أشرت إليه من توهان يتأكّد أكثر وأنت تقبل على نصّ الشاعر "فاروق الباشا" "ضرب من العشق... مشرف". وهو على ما يبدو نصّ من الشعر العمودي لكن في ثوب جديد. جدّة تطالعنا من عتبة النصّ أي العنوان.
** قراءة في العنوان
جاء عنوان النصّ -على غير عادة الشعراء في ميلهم للاقتضاب والاختزال- محيّرا.فهل نتقبّله على أنّه جملة اسميّة تامة الإسناد، المسند إليه(المبتدأ) تركيب بالتمييز "ضرب من العشق" والمسند(الخبر) "مشرف".و إن نحن ذهبنا هذا المذهب نكون قد خنّا النص وحرّفنا عنوانه إذ نكون قد أهملنا ما أثبته الشاعر بين مكوّنيه من نقاط تتابع هي في الأصل فراغا قد يكون الشاعر قصده قصدا. فورّطنا، وأخرجنا من حيادنا، وحوّلنا مكن التقبّل السلبي إلى التقبّل الفاعل وأصبحنا بذلك مساهمين في بناء معاني النصّ من خلال سعينا إلى إتمام الفراغ انطلاقا من جملة من الأسئلة التي نطرحها دفعة واحدة. لم هذا الفصل بين مكوّنات الجملة العنوان؟ ما خبر هذا الضرب من العشق(المكوّن الأوّل من العنوان) وما هو المشرف أو أين يكمن؟ (المكوّن الثاني من العنوان).
وفي التماسنا أجوبة لهذه الأسئلة نكون مشاركين في بناء المعاني ومشاركين للشاعر في نصّ. فكأنّنا بفاروق الباشا الشاعر يعود بنا إلى قول مأثور في النقد العربي ورد على لسان أبي تمام"لمانا لا تفهم ما يقال" في إشارة إلى أن دور المبدع ليس الإفهام بل هو إخراج ما يبدو مشتركا إخراجا مختلفا.
وبعيدا عن التأويل وبالعودة إلى الشرح المعجمي لمفردات العنوان، نقف عند لفظة "ضرب" وهي مصدر مفرد جمعه أضرب من فعل ضرب. والضرب الجلد وهو المثل والصنف والنوع.والضرب في بيت الشعر آخر تفعيلة من الشطر الثاني من البيت. فأيّ هذه الدلالات يطمئنّ لها الفؤاد؟
إذا ما ربطنا اللفظة الأولى( ضرب) بالمركب بالجر الوارد بعدها ينجلي بعض الغموض، ونصبح أميل إلى قبول معنى الصنف والنوع. و مبرّرات هذا الميل نستمدها من وظيفة المركب بالجرّ"من العشق" وهي تمييز.فهذا الضرب مميّز بنوعه وصنوفه.هو نوع من الإفراط في الحبّ والغرام والتعلّق.و بجمعنا لمكوّنات الجزء الأوّل من العنوان نقول نوعا أو صنفا من الحبّ والغرام. وإذا سلّمنا بهذا الشرح نسأل هل يقرّ الشاعر بأضرب أو أنواع من الحبّ؟ وأيّ هذه الأنواع يستميله؟ ويزداد الفهم غموضا والتأويل صعوبة بوقوفنا عند الجزء الثاني من العنوان "مشرف". إذ لا يمكننا حسم أمر الشكل. هل نقرأ "مشرف" دون تضعيف الرّاء وتسكين الشين؟ في هذه الحالة تكون اللفظة من فعل أشرف وهي في هذا السياق تعني كما ورد في لسان العرب" اطّلعت عليه من فوق أو ما جاءك منه وأنت غير متطلّع إليه وغير طامع فيه".
وأمّا إذا قدرنا مشرّفا بتضعيف الرّاء وتحريك الشين من فعل شرّف فنقول ما تقول به بعض المعاجم"شرّف فلان فلانا عظّمه ومجّده ورفع من شأنه".بمعنى أن الصنف من الولع والعشق الذي يقود الشاعر من العذريّة والسموّ ما يشرّف العاشق ويعظّمه.
هكذا يترك لنا عنوان النصّ حيّزا للاجتهاد والتأويل. والذي اذهب إليه أنّ العنوان ينفتح على ضرب من العاطفة وعلى تجربة في العشق مختلفة تشرف بصاحبها على المختلف وتزيده شرفا.
واستنادا لهذا التأويل نذهب الى انّ النصّ يتنزّل ضمن ما يصطلح على تسميته بقسم النسيب في القصيدة العربية التقليدية أو غرض الغزل كما أصطلح على تسميته في شعر التجديد.
** بنية النصّ
على عكس ما بدا عليه العنوان من غموض وتداخل دلالي بدت بنية النصّ جلية؟ استهلّها الشاعر ببيتين هما أقرب للوقفة الطلليّة وان اختلفا عن المضمون التقليدي لتلك الوقفة.
فلم يكن التعريج على ديار الحبيبة المرتحلة كما اعتدنا بل مال بنا إلى ربوع حيّه الذي نشأ فيه وترعرع "أيا أصيلا بذاك الحيّ منبته...شبّت في ربوعه وشابت..." فحنين الشاعر ليس لمحبوبة هاجرة أو فارقت الديار بل هو حنين لفترة عمريّة ولّت وتركت بالنفس حنينا وشوقا. ولسنا نجزم هنا أن الحنين لتلك الفترة لبراءتها وما يكتنفها عادة من سعادة ونشوة بل لعلّه الحنين إلى ما يرتبط بالطفولة والشباب من علاقات وخاصة العلاقات العاطفيّة التي كانت كثيرا ما تنشأ مع بنات الحيّ وتشرف بنا على عالم من الأحلام مختلفا عن الواقع.
والى هذا الحدّ لا يخالجنا شكّ في أنّ النصّ يتنزّل ضمن غرض الغزل. لعلّه التغزّل بقيم الطفولة والشباب التي ولّت واشتدّ شوق الشاعر لها.
على أنّ هذا الاطمئنان سرعان ما يتزعزع ويفاجئنا الشاعر بداية من البيت الثالث والى حدود البيت الثالث عشرة بمقطع مدحي يعيدنا إلى موروثنا الشعري من خلال ما توفّر فيه(المقطع) من معان مدحية كالنجدة والكرم والفروسيّة وعلوّ المكانة...
هو الفارس مرتضاه أقام عدل
ونصرة معنون وإسعاد قانت
ما ظل بعيد تقول في شأنه
وما كذبت عثرته عندما قالت
وما جعلنا نغلّب المدح على غيره من الأغراض إضافة إلى المعاني المد حية المشار إليها سابقا ضمير الغيبة المفرد المذكّر في تناص واضح في مستوى بعض المعاني ولعبة الضمائر مع مدحيات المتنبي في سيف الدولة.
وما ان يأخذنا المقطع الثاني الى بداية رسم صورة للفتى- الممدوح- بمعناه القيمي الجاهلي حتى يكسر الشاعر تلك الصورة في المقطع الثالث بداية من البيت الرابع عشرة إلى حدود البيت السابع عشرة ليلتفت الى جزء من المفروض أن يسبق الغرض الأصلي(المدح) حسب بنية القصيدة العمودية التقليدية ونقصد قسم الرحلة.فجاء هذا المقطع ثريّا بألفاظ تتنزّل ضمن معجم الرحلة والرحيل(عابر/الفلاة/دياركم/ترامت...) فهل هو ضرب من الانزياح أم ضرب من التقليد؟
وينتهي النصّ بمقطع أخير من البيت الثامن عشرة إلى الآخر بانزياح جديد مفاجئ.فبعد قسم الرحلة يطالعنا الشاعر بأبيات غزلية لا نعرف إن كانت امتدادا لقسم النسيب في القصيدة التقليدية أم هي خروج عن البنية النموذجية بالجمع بين أكثر من غرض في قصيد واحد.
والطريف في القسم الغزلي في النصّ أنّ الشاعر خالف أفق انتظار المتلقي، فلم يرسم لنا صورة الحبيبة، إذ اكتفى بالإشارة إلى عيونها ليقصر حديثه على وقع نظراتها عليه وينبري في تصوير حالة وجدانية لعاشق شارف على السقم والهلاك، ممّا جعله يحفر في الذاكرة عن قصص العشاق غيره. فتحضره قصة عنترة، كما تحضره معاناة كل العشاق مع اللائمين و العذّال.
فما كان لي بالهوى عهد سوى
قصص الزمان بها الأجيال تحاكت
فكم كقيس في أيّامنا رأيته
يهذي لصبابة من عقله نالت
أو كابن شدّاد في الممالك يهوى
لأجل صداق من لها نفسه تاقت
على أنّ الشاعر لم يرتض لنفسه ما ارتضاه السابقون. فلم يخالفهم في بعض سننهم الشعرية فحسب، بل خالفهم في تجاربهم الوجدانية كذلك.
قلت هذا شأنك بذي بكم فما
شأنك بنفسي لو مكانه قال
** في الإيقاع
لم يكن الإيقاع في النصّ بعيدا عن حيرة العنوان ولا عن ذال القفز على أقسام البنية، فكان إيقاعا حركيا تراوح بين الحماسة و ورقة الوجدان.
وبعيدا عن الإيقاع الخارجي للنصّ( البحر والقافية والروي) والذي فيه قول ومآخذ فانّ الحركية التي اشرنا إليها متولّدة أساسا عن الإيقاع الداخلي.وهو إيقاع موسيقي ينتقل خلاله الشاعر بين القرار والجواب ودرجات السلّم الموسيقي وبين الشدّة واللين والحماسة والفتور.فتتكرّر في المقطع الثاني على سبيل الذكر- والذي نزلناه في غرض المدح- حروف صفيريّة شديدة كالسين والشين.وهي حروف تتلاءم مع ما اختاره الشاعر من معان مدحية.هذا إضافة إلى طغيان المقاطع الطويلة المنغلقة بما يقترن بها من شدّة. على خلاف المقطع الثالث(الرحلة) والذي كان أساس إيقاعه الداخلي الحروف الرخوة والمقاطع الطويلة المنفتحة(حركة طويلة)بما يوحي للمتقبل بعناء السفر وما يتولّد عن مشقّته من ألم وتأوّه ورغبة في الاسترخاء.
ختام القول النصّ نواة مشروع شعري يعمل صاحبه الشاعر فاروق الباشا على التجديد من الداخل.فبقدر ما يبدو-وللوهلة الأولى- ملتزما بسنن النظم العمودي بقدر ما يعمل على تجاوز هذه السنن مما جعل النصّ نصوصا تصبّ في تجربة لا نعلم مدى نضجها.ولا يمكننا الحكم لها أو عليها إلا بمتابعة نصوصا أخرى للشاعر في نفس السيّاق
رياض المساكني(انقزو)

مساكن / تونس
google-playkhamsatmostaqltradent