لغة الهَوْ هَوْ....!
هبّ بواب العمارة من فوق الكنبة الخشبية المتكأ عليها لما رآه خارجاً من باب المصعد ، يخطر فى مشيته كطاووس متأنق ، أقبل عليه سعيا ، رافعا كف يمينه إلى جوار أذنه وكأنه يؤدى التحية العسكرية إلى قائده الأعلى ، بادره الصحفى الكبير بالتحية الصباحية المعتادة فرد عليه البواب :
- هَوْ ..! هَوْ !
توقف الصحفى لسماع النباح الصادر عن البواب و هز رأسه فى شىء من الخيلاء بينما ابتسامة المجد تجوب شفتيه المكتنزة :
-لابد أنك تابعت حلقتى بالأمس .
- هَوْ ..هوْ ! أجاب البواب و هو يحرك رأسه إيجابا .
- سلام بقى يا عم عوضين !
قالها و هو يلوح بيده للبواب ثم أخذ مجلسه فى المقعد الخلفى للسيارة الفارهة حيث سارع السائق إلى فتح الباب و من ثم غلقه بعد ركوبه مانعا البواب الذى انطلق فى إثره من نيل هذا الشرف العظيم ، واكتفى البواب باطلاق نباح طويل فى وداع الصحفى الذى أقلته السيارة إلى مبنى الجريدة التى يرأس تحريرها على الرغم من صغر سنه و قلة خبرته و عدم كفايته المهنية ، و لما افتتح مالك الجريدة قناة تليفزيونية خاصة (كدأب غيره من رجال المال الكبار ) اختاره لتقديم أهم البرامج السياسية التى تبثها القناة كل مساء، ضغط على زر أمامه بمجرد دخوله مكتبه مستدعيا سكرتيرته الخاصة و بادرها بالسؤال :
- ماذا يجرى فى الجريدة ؟
أطلقت السكرتيرة نباحا أنثويا رقيقا مما دعاه للقول:
- حتى أنت يا حنان ؟! صحيح حلقة الأمس كانت ناجحة للغاية و أحدثت فرقعة مدوية حتى أنى تلقيت العديد من الاتصالات سواء من معارفى أو من العاملين فى الحقل الاعلامى لتحيتى على موضوع الحلقة و للاشادة بشجاعتى و صراحتى خاصة عندما قلت أننا شعب لا يجيد إلا فن النباح دون إعمال العقل و لو قليلا ، و لكنى لم اتصور أبدا أن يصل تأثير الحلقة إلى هذا الحد ، كل من قابلتهم منذ صباح اليوم و كأنهم فقدوا القدرة على الكلام و صاروا...، ماذا يجرى يا حنان ؟.. أخبرينى !
رفعت السكرتيرة كتفيها عاليا ، ومطت شفتيها و بسطت كفى يديها أمامها دون أن تنطق بكلمة مما أثار استيائه و زعق فيها :
- انطقى يا حنان ! كلمة واحدة مما كنت تحشين به أذنى كلما مررت على الجريدة !
زامت السكرتيرة و حركت يديها لتشير أنها لا تستطيع التحدث فما كان منه إلا أن ناولها ورقة لتكتب فيها ما لا تستطيع أن تنطق به ففعلت ثم أعادتها إليه ، استغرق قليلا فيما كتبت "ضباط الأمن العام كانوا هنا للتحقيق معى ..بسبب...، هل يُعقل هذا ؟ نحن ...سياسة جريدتنا و قناتنا معروفة للجميع ..، نحن ندعم الدولة قلبا و قالبا...،نحن من مؤيدى النظام الجديد و صحفيو الجريدة يعملون مخبرين لدى الأجهزة الأمنية..، لابد أنها مجرد دعابة ..، أجل دعابة سخيفة لا أكثر...."
غادر مبنى الجريدة محملاً بالكثير من التوتر حتى أنه أمضى بقية اليوم دون أن يجرى مكالمة واحدة مع المسؤلين أو الزملاء من رجال الاعلام المشهورين على خلاف العادة ، ثم أمر السائق بالتوجه إلى مدينة الانتاج الاعلامى حيث يقع مقر القناة التليفزيونية إلا أن مخرج البرنامج اختلى به و أخبره أن هناك إخطار من مكتب الأمن العام بمنعه من الظهور المباشر على الشاشة ثم أعقب قائلا:
- أذهب إلى بيتك لتأخذ قسطا من الراحة !
وصحبه المخرج حتى باب الخروج من الإستوديو:
- فكر جديا فى أخذ اجازة ،سافر إلى أى مكان هادىء لتستجم قليلا و لتتخلص من ضغوط العمل !
أخذ حبة منومة ليتمكن من النوم ، طاردته الكوابيس فى نومه ، والكلاب الشرسة لم تكف عن ملاحقته ...، محاصرته ...، قال كبيرهم و هو يهمّ بعقره :
- حتى تصبح من عشيرة الكلاب....عليك....
هزته زوجته لتوقظه :
- خالد انت ...؟ ايه الأصوات دى...؟
فتح عينيه..،حركهما فى اضطراب و سرعة ثم قفز من السرير الوثير و انطلق فى الشوارع على أربع ، ينبح عاليا مع قطعان النابحين ..
عمرو زين