جنون العبقرية
يتهم النقاد ، لا بل الناس جميعاً ، أصحاب الفنون من أدباء وشعراء ورسامين وموسيقيين ، بالخروج على جادة المنطق والبعد عن المصطلح العام والشذوذ عن المجتمع بأخلاق خاصة يتسمون بها وبوادر خلقية نلفت الناس اليهم فيعجبون منهم ويحارون فى هذا الذى يصدر عنهم ، وينسبون ذلك كله الى اضطراب فى اعصابهم وانحراف فى نظرتهم الى الحياة !
فمن هؤلاء من يسرف فى طعامه وشرابه ، ومنهم من ينصرف كلياً الى المرأة تاركا كل شىء حوله مهملاً لكل ما يحيط به ، وقد تجد بعضهم يسيطر عليهم التشاؤم والخوف فيعرض عن وسطه الذى يعيش فيه ، وينأى عن أهله وذويه ، وقد تجد بعضهم الآخر مسرفاً فى حبه للمال يضحى بكل شىء فى سبيل الحصول عليه ، أو تجد منهم ذلك الشاعر الكبير الذى اتسخت ثيابه وسمح نظره فى حين يكون فى غنى فاحش وفى حال من الثراء والغنى يحسد عليها ، ولقد يحيرك فنان كبير أو شاعر كبير خطير إمتلكته نفسه فأصبح متكبراً متعجرفاً لا يرى فى الكون كله الا نفسه ولا يؤمن الا بقدرته الذاتية على الانتاج والعبقرية والسمو الابداعى ، وربما لقيت وأنت تستعرض رجال الفنون هؤلاء شاعراً كبيراً انصرف ذهنه الى اصلاح البشرية ودعوتها الملحة للاستماع الى نصائحه وارشاداته ، وهى نصائح ليست تنفع احداً ولا يؤمن بها انسان .
ومن الغرائب والعجائب ان ترى بعض اهل الفن يترك فنه ليعمل فى ناحية اخرى من الحياة وهى ناحية لا تعلق له بها ولم يخلق من اجلها ، فهو يضيع وقته وفنه فى امور تافهة قد يجدها الناس غريبة عنه فيحاولون ارجاعه الى جادته التى ابدع بها وأجاد ، ولكنه ينفر من كل ناصح ، ويتبعد عن كل واعظ ، ويظل سالكاً سبيله المعوجة الى ان ينقضى زمنه أو يذهب فيه أدراج الرياح جزاء عناده وتشبثه بما لا علاقة له به .
ومن أبرز ما يلاحظ على اصحاب الفنون التناقض الفاضح فى حياتهم فهم يعملون الشىء كما يعملون ضده ، وهم يقولون ويتحدثون فى أمور ثم يتحدثون فى أمور مناقضة لها بعد زمن قصير ناسين ما تحدثوا به اولاً ، وهم قد يصدرون الحكمة ، ولكنهم يرون وهم أول من يخالف هذه الحكمة ، فهم يمدحون الكرم مثلاً وهم أبخل الناس ويحتقرون المال ومن يجمعه وهم أشح البشر وأشدهم حرصاً على جمع المال ، ولقد كثرت هذه التناقضات عند أصحاب الفن حتى عدهم الناس شاذين فى طباعهم او مجانين فى عقولهم وحتى وصفوا العبقرى بالجنون ، وحتى سموا العبقرية بالهوس فقالوا : جنون العبقرية .
ولا بد لى وقد عرضت فكرة هذا الموضوع من أن آتى على ما عرضت وقررت بأمثلة ونماذج تكون دليلاً لا يقبل الشك على ما قدمت ، وسآخذ عدداً من رجال الفنون ، أتحدث عن شذوذهم وانحراف عبقريتهم ، دون ان اتقيد بترتيب زمنى او اجتماعى وربما اخترت الرجل الشرقى او الغربى فالعبقرية فى كل بلاد الله واحدة .
والفن فى الدنيا فن واحد لا يختلف عند انسان او آخر . وأول انسان لفت نظرى فى شذوذه وعبقريته الشاعر ابن الرومى الذى كان اعجوبة فى فنه كما كان غريباً فى سلوكه وحياته الخاصه .
وكان الناس يستمعون الى شعره فيرون فيه اسمى المعانى واعذب الصور وأحلى الأفكار ، فاذا تركوا شعره رأوه فقيراً معدماً منعزلاً فى بيته لا يزور ولا يزار وكانه المريض المعدى ، حتى لقد اشفق عليه جيرانه مرة حين سمعوا امرأته تستنجد بهم ليعطوها قليلاً من الماء لأنها عطشى بسبب قعود زوجها الشاعر فى بيته وعدم اجترائه على الخروج خوفاً مما يرى من مناظر تخيفه وترهبه وتثير أعصابه ، فى حين ان كل ما يراه لا يؤثر فى غيره ولا يمر ببال سواه .
ونجد ابن الرومى هذا العبقرى الملهم يخرج من داره فاذا رأى احدب او اعور رجع الى بيته ليبقى فيه اياماً وليالى دون طعام أو شراب .
دعى مرة الى حفل ساهر عند احد اصدقائه فوجد فى الحفل مغنيتين ، احداهما حولاء والأخرى فى عينها نكتة ، فاضطربت احواله لهذه المصادفة التى لم يحسب لها حساباً ، ومشى مسرعاً فتعثر فى مشيته وانقطع شراك نعله ولم يطل مقامه فى الحفل فهرب الى بيته ، وفى اليوم الثانى سمع ان ابنة صاحب الحفل وقعت عن السطح وماتت ، فربط كل هذه الأحداث بفكرة واحدة هى النحس .
فهل العبقرية هى التى خلقت عند اصحاب الفنون هذا الشذوذ المسلكى ام ان الشذوذ هو السبب فى ظهور العبقرية الفنية عند الفنانين ؟
الأديب / الشاعـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر
فـوزى فهمـى محمــد غنيــــــــــــــــــــــــم
Fawzyfahmymohamed@yahoo.com
