recent
أخبار ساخنة

الأستاذ. سليم عوض عيشان يكتب(من يدق الخزان )

( من يدق الخزان) ؟؟؟!!!
قصة قصيرة
بقلم / سليم عوض عيشان ( علاونه )

=====================

إهداء متواضع :
.. إلى طابور العمال الذي كان ..
.. وإلى طابور العمال الذي صار عاطلًا .. وما زال يعاني الحصار ...
إهداء خاص :
إلى روح الأديب الكبير الشهيد / غسان كنفاني ... رحمه الله ..
معلمي .. وملهمي .. واستاذي ... أنت ..
" ولتأذن لي يا سيدي أن أستعير الصور خاصتك .. بعد أن عجزت بدوري العثور على الصور التي تضاهيها وتضارعها ... لنصي المتواضع ... "
( الكاتب )
----------------

" لا توجد طريقة أخرى .. لا داعي للتفكير أكثر وإضاعة الوقت .. فمهما قدحت زناد فكرك وأطلقت التفكير فأنت لن تهتدي لطريقة سواها .. لأنه ببساطه لا توجد طريقه أخرى ".
صرخ السائق بحدة وعصبية في وجه الشاب الذي كان يقف في مواجهته مضطربًا .. تنهد الشاب للمرة المليون بألم وامتعاض .. تمتم :
- حقاً بأنه لا توجد طريقه أخرى .. ولكن …
قاطعه السائق بحده وحزم ..
- ولكن ماذا ؟؟؟ .. دع عنك " ولكن " هذه .. واحزم الأمر ، لقد قتلت الوقت ، وقتلت نفسك ، وقتلت أطفالك الجياع بترددك هذا .. الآلاف من أمثالك يتمنون مثل هذه الفرصة .
تململ الشاب قليلاً .. حلق في السماء ببصره الزائغ .. رد نظراته التائهة ناحية السائق .. تمتم :
- ولكن .. لنفترض بأنهم اكتشفوا مكاني .. فإنهم سوف يقتلونني بالتأكيد في هذه الحالة .
رد السائق مزمجرًا هادرًا بحزم :
- لن يكتشفوا .. لن يكتشفوا مكانك أبدًا .. لن يخطر ببال أحد بأنك تقبع في ذلك المكان .. صدقني ، لن يخطر ببالهم أبدًا .. لن يساورهم أي شك ..أنا أدرك ذلك جيدًا ..فأنا أعبر الحاجز كل يوم … كل يوم تقريبًا .
يبدو أن شيئًا من الطمأنينة قد تسلل إلى قلب الشاب ، فهدأت نظراته التائهة قليلاً ..أردف:
- ولكن ..
قاطعه السائق بحدة مزمجرًا:
- أوه .. ولكن .. ولكن.. لقد قتلتني بهذه الكلمة اللعينة .. ألا يوجد في قاموس لغتك من كلمة سواها ؟ قلت لك لا تخف ..لا تخش شيئًا.. بدوري لن أتقاضى منك الأجر حتى أصل بك إلى بر الأمان في الجانب الآخر .
حاول الشاب أن يتودد للسائق ومال إلي جانب اللين ، فهو بحاجة ماسة للانتقال إلي الجانب الآخر من أجل إيجاد فرصة عمل لإطعام الأفواه الصغيرة العديدة الجائعة.
- .. حسنًا .. حسنًا .. إننا نكاد أن نتفق .. إن ..
قاطعه السائق بحدة وانفعال :
- نكاد ؟! ما معنى نكاد هذه بالله عليك ؟! .. إننا متفقان يا عزيزي … متفقان تمامًا.
هتف الشاب وشبه ابتسامة على محياه :
- متفقان .. متفقان .. ولكن دعني أناقش الأمر قليلاً معك يا عزيزي .. ألا تذكر نهاية أبطال " كنفاني " ؟؟؟ .. لقد ماتوا جميعًا .
احتد السائق صارخًا :
- ما شأننا وشأن " كنفاني " ورجاله أولئك ؟! .. ما العلاقة بين ما نحن فيه وما حدث لرجال " كنفاني " ؟!.
رد الشاب بهدوء :
- هل نسيت بأن رجال " كنفاني " قد ماتوا في الخزان جميعًا ؟ .
صرخ السائق بحدة :
- لم أنس ذلك .. لم أنس مطلقًا .. ولكن ماذا في ذلك ؟.
تمتم الشاب بهدوء بالغ :
- لا شيء .. فقط كل ما أخشاه أن تكون نهايتي كنهاية أولئك الرجال .. ألا ترى بأن المواقف تتشابه ؟ .. ألا تريد أن تنقلني في الخزان إلي الداخل لكي أبحث عن فرصة عمل ؟ .. إن هذا هو ما حدث تمامًا لرجال كنفاني " .
احتد السائق صارخًا:
- هناك اختلاف كبير .. فرجال " كنفاني " سجنوا في خزان بترول صدئ ، أما أنت فسوف تحل ضيفًا في خزان مياه حديث ونظيف ... هم كانوا ثلاثة فاستنفدوا الأكسجين بسرعة ، أما أنت فواحد ... ثم أن هناك حر الصحراء الجهنمي القاتل ، أما هنا فالمناخ منعش رائع ... هناك لم يكن أي طعام أو شراب .. أما هنا فالطعام والشراب و..
قاطعه الشاب :
- كفى .. كفى .. ولكن لا تنس أن الحواجز هي الحواجز .. التفتيش هو التفتيش .. بل هنا الموت نفسه إذا اكتشف جنود الحاجز مكاني داخل الخزان ، و..
قاطعه السائق بنزق وعصبية :
- لن يحدث هذا .. لن يحدث .. اطمئن يا عزيزي ... ثم إن رجال " كنفاني"  ماتوا لأنهم " لم يدقوا الخزان " ، " فلماذا لم يدقوا الخزان " ؟! .. كان عليهم ان يدقوا الخزان ..  وكل ما عليك يا عزيزي هو أن تدق الخزان إذا شعرت بالضيق أو الضجر أو الاختناق ، رغم أنني أعلم بأنك لن تفعل ذلك ، ببساطة لأن المكان مريح ، وسوف يكون لديك الطعام والشراب والهواء المنعش ، ثم إن الأمر لن يستغرق سوى سويعات وينتهي كل شيء وتكون في الجانب الآخر لتجد العمل الوفير هناك.
تمتم الشاب بهدوء :
- ولكن .. أخشى إن قمت بدق الخزان أن يصادف ذلك وجودنا داخل حاجز التفتيش ، فيكتشف الجنود مكاني فيقتلونني ، أو في أحسن الأحوال يصدرون حكمًا قاسيًا عليّ بشتى التهم ، ذلك بالطبع بعد أن يكونوا قد أشبعوني لكمًا وركلاً وتشويهًا.
هتف السائق بهدوء مصطنع :
- حسنًا ..لا داعي لأن تدق الخزان إذن .
رد الشاب بهدوء بالغ :
- في هذه الحالة لن يكون حالي بأفضل من حال رجال " كنفاني " .
تصنع السائق الهدوء هاتفًا :
- حسنًا .. حسنًا .. سوف أقوم أنا بالدق على الخزان.
هتف الشاب بهدوء والدهشة تعلو محياه :
- وهل ستترك مقود السيارة وتدخل برفقتي إلى الخزان ؟!.
تأفف السائق كمن يكاد أن يفقد صبره :
- ليس هذا وقت المزاح وإطلاق النكات .. سوف أقوم بدق الخزان من الخارج ، هل فهمت يا عزيزي ؟؟ .. سأدق الخزان من الخارج بعد الانتهاء من إجراءات الحاجز والوصول إلى بر الأمان في الجانب الآخر .. فعندما تسمع ذلك .. عليك أن تعلم بأننا قد وصلنا بر الأمان .. وعليك أن تبادر بالخروج من الخزان ..هل فهمت ؟.
رد الشاب بهدوء وشبح ابتسامة على محياه :
- حسنًا ..هذه فكرة جيدة يا رفيقي .. ولكن .. سوف لا أدفع لك الأجر إلا بعد الانتهاء من الأمر .
بدت الابتسامة لأول مرة على وجه السائق وهو يتحرك بسرعة نحو السيارة هاتفًا :
- اتفقنا إذن ..هيا بنا .
انطلق الشاب بسرعة وحيوية مبتسمًا مداعبًا :
- هيا بنا … ولكن..لا تنس أن تدق الخزان .
توجه السائق نحو مقود السيارة الضخمة ذات الصهريج الكبير ، وسرعان ما كان الشاب يرتقي سلم الصهريج ليرفع الغطاء بسرعة ويلج جوف الخزان الرهيب.. يحمل بين يديه بعضًا من الطعام وشيئًا من الماء ، ثم أقفل فوهة الخزان بخفة ، فأحس برهبة المكان ووحشته بعد أن ساده الظلام الدامس.
اتخذ الشاب لنفسه موضعًا مريحًا نوعًا ما داخل الخزان الضخم ، ولكن هذا الموضع لم يمنع انزلاقه يمنة ويسرة ، إلى الخلف وإلى الأمام ، متناغمًا مع تمايل السيارة الضخمة .. مصاحباً قضمه العصبي لقطع من الخبز الجاف وحبات من الزيتون .
ساعة أو أكثر قليلاً .. حتى توقفت السيارة فأدرك الشاب أنهم لا بد وأن وصلوا قريبًا من الحاجز ، فتوقف عن القضم والمضغ وحاول أن يكتم أنفاسه حتى لا يسمعه أحد .
سارت السيارة قليلاً ثم توقفت .. سارت ثم توقفت ، فأدرك الشاب أن السيارة ما زالت تقف في الطابور الطويل أمام الحاجز ، فحاول أن لا يصدر أية حركة أو صوت ، وكتم ( عطسة ) كادت أن تفلت منه ، وضغط على بطنه بقوة ليمنع بعض الاضطراب الرهيب للأمعاء الدقيقة والغليظة .
شعر بالظمأ الغريب في جوفه والجفاف الرهيب في حلقه ، فمد يده بهدوء بالغ يتحسس زجاجة الماء ، فتحها بحرص وعناية .. وراح يسكب بعض قطرات من الماء ليبلل شفتيه ويرطب حلقه وفمه ، محاولاً أن لا تصدر الزجاجة أي نوع من الأصوات ، حتى لا يتنبه له من في الخارج .
تحركت السيارة فجأة ، فاندلق ماء الزجاجة ليملأ عينيه ووجهه وصدره ، بينما أخذ جسده يتدحرج بقوة وسرعة إلى الخلف ، فعض بأسنانه على شفته السفلى بقوة عظيمة وكأنه يحاول أن تخفيف الضجيج الذي أحدثه !! ، فأحس بالدماء الساخنة تنساب من شفته ، راح يلملم أشياءه المبعثرة وجسده المتناثر ، وأصاخ السمع جيدًا.
بعد لحظات ، توقفت السيارة .. ثم سارت .. ثم توقفت.
أشار حراس الحاجز من الجنود بأيديهم للسائق يأمرونه بالتوقف ، فأذعن للأمر وبدا شيئًا من الاضطراب على محياه ، اقتربوا منه ، سألوه أسئلة روتينية ، أجابهم مضطربًا ، طلب إليه أحدهم الأوراق الخاصة به وبالسيارة ، فتناولها بيد مرتعشة وقلبٍ واجف وقدمها له ، جاهد في رسم ابتسامة ما على شفتيه ، تناول الجندي الأوراق وراح يدقق فيها ويتصفحها واحدة واحدة ، تشاور قليلاً مع زملائه الآخرين من حراس الحاجز ، راحوا يعرضون الأوراق على أجهزتهم الجهنمية ، طال كثيرًا البحث والتشاور والفحص ، تململ السائق .. أخرج علبة السجائر من جيبه بارتعاش ، حاول عدة مرات أن يصوب لهب الولاعة إلى طرف السيجارة التي استطاع أن يضعها في فمه بالكاد ، فشلت كل المحاولات لإشعالها ، أمسك بالولاعة بكلتا يديه مصوبًا شعلتها نحو طرف السيجارة بقدر الإمكان ، فأصابت الوسط تمامًا ، نظر بغيظ وحنق ناحية الولاعة وناحية السيجارة ، سحب نفسًا عميقًا من السيجارة فأتى على النصف الآخر .
اقترب منه الحارس ناوله الأوراق .. تناولها بيد مرتعشة مضطربة ، سأله الحارس عن وجهته فأجابه ، فاجأه بالسؤال عما إذا كان في الخزان شيئًا ؟!.. أجابه بابتسامة ميتة بأن لا شيء هناك ، فالخزان فارغ تمامًا .
طلب الحارس منه ألا يتحرك حتى يتأكد بنفسه من الأمر ، دار الحارس حول السيارة دورة .. ثم أخرى .. اقترب من الخزان بهدوء بينما كان السائق يراقبه بعيون مرهقة متمتمًا محوقلاً معذبلاً .. سائلاً الله في سره أن لا يحاول الجندي صعود الخزان ورفع الغطاء حتى لا يكتشف وجود الشاب .
وقف الحارس يحمل سلاحه الرهيب قريبًا جداً من الخزان ، بينما كان يراقبه بقية الجنود ، فكر أكثر من مرة .. ثم تراجع .. وفي كل مرة كان يهم بها بالصعود .. كان قلب السائق يتوقف عن العمل .. ثم يستأنف العمل باضطراب وصخب .
أخيرًا .. يبدو أن الجندي قد قرر الصعود ليتأكد من ذلك بنفسه ، وبدأ فعلاً في الصعود .
لما تأكد الأمر للسائق ، توقف قلبه عن الوجيب للحظات ، ثم عاد إلى الاضطراب مع كل خطوة كان يخطوها الجندي إلى أعلى ...
توقف الحارس قليلاً .. لعله كان يلتقط أنفاسه .. أو لعله كان يفكر في أمر آخر . رفع قدمه إلى الأعلى ، ولم يتبق للوصول إلى قمة فوهة الخزان سوى عدة درجات .
وقبل أن تستقر القدم في مكانها الجديد ، كان الحارس يهبط بسرعة إلى الأسفل ، ثم يقفز سريعًا نحو الأرض .
تنفس السائق الصعداء .. استرد أنفاسه وشيئًا من أعصابه التي انهارت تمامًا ، راح يجفف العرق المتصبب من وجهه بغزارة رغم برودة المكان ، وراح يراقب تحركات الحارس بعيون زائغة وأنفاس لاهثة .
هبط الحارس إلى الأرض ، توقف قليلاً وكأنه ينوي المغادرة ، توقف للحظات ، يبدو أنه قد تراجع عن نيته بالمغادرة .. اقترب من الخزان من جديد بخطوات وئيدة .. رفع إحدى يديه في الهواء ؛ بينما كانت اليد الأخرى تطبق بقوة على السلاح المشرع ، هوى بقبضة يده على الخزان .. راح يدق عليه بقوة عدة مرات.. لكي يتأكد بأن الخزان فارغ فعلاً ؟؟!!...
فجأة .. كان الشاب يرفع غطاء الخزان ، مبتسمًا ابتسامة عريضة .. يحمل بيده بعض النقود ، وباليد الأخرى ما تبقى من طعام ، مندفعًا إلى الخارج ، بعد أن سمع الدق المتوالي على الخزان ؟؟!!...

google-playkhamsatmostaqltradent